غزوة ذات الرقاع
في ربيع الآخر بلغه عليه الصلاة والسلام أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه وهم بنو محارب وبنو ثعلبة فتجهَّز لهم وخرج في سبعمائة مقاتل وولّى على المدينة عثمان بن عفان ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة فأخذهنّ فبلغ الخبر رجالهم فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب فتقارب الناسُ وأخافَ بعضهم بعضاً ولما حانت صلاة العصر وخاف عليه الصلاة والسلام أن يغدر بهم الأعداء وهم يصلّون صلى بالمسلمين صلاة الخوف فألقى الله الرعب في قلوب الأعداء وتفرقت جموعهم خائفين منه .
غزوة بدر الآخرة
لما أهلّ شعبانُ هذا العام كان موعد أبي سفيان فإنه بعد انقضاء غزوة أُحُد قال للمسلمين موعدنا بدر العام المقبل فأجابه الرسول إلى ذلك وكان بدر محل سوق تُعقد كل عام للتجارة في شعبان فلما حَلَّ الأجلُ وقريش مُجدبون لم يتمكن
أبو سفيان من الإيفاء بوعده فأراد أن يخذل المسلمين عن الخروج كيلا يُوسم بخلف الوعد فاستأجر نُعيم بن مسعود الأشجعي ليأتي المدينة ويُرجفَ بما جمعه أبو سفيان من الجموع العظيمة فقدم نُعيم المدينة وقال
(إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
ولم يلتفت عليه الصلاة والسلام لهذا الإرجاف اتِّكالاً على ربه بل خرج بألف وخمسمائة من أصحابه واستخلف على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أُبَيَ ولم يزالوا سائرين حتى أتوا بدراً فلم يجدوا بها أحداً لأن أبا سفيان أشار على قريش بالخروج على نيّة الرجوع بعد مسير ليلة أو ليلتين ظانّاً أن إرجاف نُعيم يفيد فيكون المخلف هم المسلمون فقال لقومه إن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب فارجعوا.
حوادث
وفي هذا العام ولد الحسين بن علي وفيه توفيت زينب بنت خزيمة أُم المؤمنين وفيه توفي أبو سَلَمة ابن عمة رسول الله وأخوه من الرضاعة وأولُ من هاجر إلى المدينة وقلبها هاجر إلى الحبشة وفيه تزوج عليه الصلاة والسلام أُمَّ سَلَمَةَ هنداً زوج أبي سلمة بعد وفاته وفيه توفي عبد الله بن عثمان وهو من السيدة رقية وكان ابن ست سنين وتوفي أيضا عامر بن فهيرة.
السَّنة الخامِسَة : غزوة دومة الجندل
وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي أن جمعاً من الأعراب بدُومة الجندل يظلمون من مَرَّ بهم، وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم، وخرج في ألف من أصحابه، بعد أن وَلَّى على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطة الغِفاري، ولم يزل يسير الليل ويكمُن النهار حتى قرب منهم، فلما بلغهم الخبر تفرقوا، فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم، فأُصيب مَنْ أُصيبَ، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلقَ أحداً، وبثّ السرايا فلم يجد منهم أحداً، فرجع عليه الصلاة والسلام غانماً، وصالح وهو عائد عيينةَ بن حِصْنٍ الفَزاري، وهو الذي كان يسمّيه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه ألف قَنَاة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضاً يرعى فيها بهمه على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت.
غزوة بن المُصْطَلِق
في شعبان، بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارث بن أبي ضرار سيدَ بني المصطلق الذين ساعدوا قريشاً على حرب المسلمين في أُحُد يجمع الجموع لحربه فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير وولَّى على المدينة زيدَ بن
حارثة وخرج معه من نسائه عائشةُ وأُم سلمة. وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قطُّ في غزوة مثلها يرجون أن يصيبوا من عَرَضِ الدنيا وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعَيْنِ بني المصطلق فسأله عن أحوال العدو فلم يجبْ فأمر بقتله ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه وأنهم قتلوا جاسوسه خاف هو وجيشه خوفاً شدياً حتى تفرق عنه بعضهم ولما وصل المسلمون إلى الْمُرَيْسِيع تَصَافَّ الفريقان للقتال بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالاً للهرب بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية واستاقوا الإبل والشياه وكانت الإبل ألفي بعير والشياه خمسة آلاف، واستعمل الرسول على ضبطها مولاه شُقران، وعلى الأسرى بُرَيدة وكان في نساء المشركين بَرَّة بنت الحارث سيد القوم وقد أخذ من قومها مئتا بيتٍ أسرى وُزِّعَتْ على المسلمين وهنا يظهر حُسْن السياسة ومنتهى الكرم فإن بني المصطلق من أعزِّ العرب داراً فأسْرُ نسائهم بهذه الحال صعب جداً فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يَمُنُّونَ على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم فتزوج برّة بنت الحارث التي سمّاها جُوَيْرِيَةَ فقال المسلمون أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم في أيدينا فمنّوا عليهم بالعتق فكانت جويريةُ أيمنَ امرأةٍ على قومها كما قالت عائشة y، وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.
غزوة الخندق
لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائماً أن يأخذوا ثأرهم ويستردّوا بلادهم فذهب جمع منهم إلى مكة، وقابلوا رؤساء قريش حرّضوهم على حرب رسول الله ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولاً لما طلبوه ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب فوجدوا منهم ارتياحاً.
فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة آلاف، معهم ثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة بعير. وتجهزت غطفان يرأسهم عُيَيْنَةُ بن حِصن الذي جازى إحسان رسول الله r كفراً، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفُّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهزت بنو مرّة يرأسهم الحارث بن عوف المري وهم أربعمائة وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعود بن رُخَيلَةَ وتجهزت بنو سليم يرأسهم
سفيان بن عبد شمس وهم سبعمائة وتجهزت بنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي وعدة الجميع عشرة آلاف محارب قائدهم العام أبو سفيان.
ولما بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاتِه التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرّه الشرقية إلى الحرّة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكن العدو من الحرب جهتها.
وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثلاً بشعر ابن رواحة: اللهمَّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدَّقْنا ولا صلّينا فَأَنْزِلَنْ سكينةً علينا وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا والمشركون قد بَغَوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى سَلْع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة آلاف، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة. أما قريش فنزلت بمَجْمع الأسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحُد. وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق منهم عكرمة بن أبي جهل وعمرو بن عَبْدِ وَدَ وآخرون وقد برز علي بن أبي طالب t لعمرو بن عبد ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفل بن عبد الله، فاندقت عنقه، ورُمي سعد بن معاذ t بسهم قطع أَكْحله، وهو شريان الذراع، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كاملاً حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حُرَّاساً حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويَعِدهم الخير.أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنُّه ضمائرهم حتى قالوا:
(مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)
وانسحبوا قائلين: إن بيوتنا عورة نخاف أن يُغير عليها العدو
(وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً)
واشتدت الحال بالمسلمين،
فإن هذا الحصار صاحَبَه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين يُساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أن حُيَيَّ بن أَخْطَب سيد بني النضير المجلين توجه إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فحسَّن له
نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.
ولما بلغت هذه الأخبار رسول الله أرسل مسلمة بن أسلم في مائتين،
وزيد بن حارثة في ثلاثمائةٍ لحراسة المدينة، خوفاً على النساء والذراري،
وأرسل الزبير بن العوّام يستجلي له الخبر فلما وصلهم
وجدهم حانقين يظهر على وجوههم الشر ونالوا من رسول الله
والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك. وهناك اشتد
وَجَلُ المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً، لأن العدو جاءهم من فوقهم
ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وظنوا بالله الظنون، وتكلم المنافقون بما بَدا لهم،
فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعُيَيْنَة َبن حِصْنٍ،
ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان،
فأبى الأنصار ذلك قائلين:
إنهم لم يكونوا ينالون منّا قليلاً من ثمارنا ونحن كفار أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟
وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث لا يعلمون. فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم جاء نُعيم بن مسعود الأشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي فمُرني بأمرك حتى أُساعدك. فقال:
«أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خَذِّل عنّا ما استطعت فإن الحرب خدعه».
غزوة بني قُرَيْظة
ولما رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة، حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدة،
فقال لأصحابه: لا يُصَلِّيَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فساروا مسرعين،
وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكباً على حماره،
ولواؤه بيد علي بن أبي طالب، وخليفته على المدينة
عبد الله ابن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف،
وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق
فصلاّها بعضهم حاملين أمر الرسول r بعدم صلاتها على قصد السرعة،
ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي
وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يُعنِّف فريقاً منهم.
ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم،
وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم
وقت الشغل بعدو آخر ولكن أنَّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟
فلما رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً
وعشرين ليلة، فلما رأوا أن لا مناص من الحرب،
وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً، طلبوا من المسلمين
أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال
وترك السلاح، فلم يقبل الرسول r، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم
من غير مال ولا سلاح فلم يرض أيضاً، بل قال: لا بدّ من النزول
والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً، فقالوا له:
أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره، وكان أوسياً من حُلفاء بني قريظة،
له بينهم أولاد وأموال، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول .
فقال لهم: انزلوا، وأومأ بيده إلى حلقه، يريد: أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة
: لم أبارح موقفي حتى علمتُ أني خنت الله ورسوله،
فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله ،
وربط نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره.
ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال:
أما لو جاءني لاستغفرت له،
أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه.
ثم إن بني قريظة لما لم يروا بدّاً من النزول على حكم رسول الله فعلوا فأمر برجالهم فكُتِّفوا فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعد بن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي أُصيب به في الخندق، وكان مقيماً بخيمة في المسجد معدّة لمعالجة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبَيّ في مواليه فقال لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومةُ لائم ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: «قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه»، ففعلوا، وقالوا له: إن رسول الله قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول : احكم فيهم يا سعد. فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله r وقال: عليكم عهدُ الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى مَنْ هنا كذلك؟ وهو غاضٌّ طرفه إجلالاً، فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمتَ فيهم بحكم الله يا سعد لأن هذا جزاء الخائن الغادر ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم وجمعت غنائمهم فكانت ألفاً وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وحَجَفَةٍ ووجد أثاثاً كثيراً وآنية وأَجمالاً نواضِحَ وشياهاً فخمَّس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس وأعطى النساء اللاتي يُمرضن الجرحى ووجد في الغنيمة جِرار خمر فأُريقت
زواج زينب بنت جحش
وفي هذا العام تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش وأمها أميمة عمته بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول خطبها له فتأففَ أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي ويعتقدون أن لا كفؤ مِنْ سواهم لبناتهم وزيد وإن كان الرسول تبناه ولكن هذا لا يُلْحِقه بالأشراف
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)
أخفى في نفسه ما أبداه الله فَبَتَّ الله حكمه بإبطال
هذه القاعدة وهي تحريم زوج المتبنَّى بقوله:
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُون
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ
مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)
الحجاب
وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله وكان عمر بن الخطاب قبل نزول آيته يحبّه ويذكره كثيراً ويودّ أن ينزل فيه قرآن وكان يقول لو أُطَاع فيكن ما رأتكنَّ عين فنزل
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
فقال بعضهم أَنُنْهى أن نكلم بنات عمّنا إلا من وراء حجاب لئن مات
محمد لأتزوجن عائشة فنزل بعد الآية المتقدمة
(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن
بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً)
فرض الحج
وفي هذا العام على ما عليه الأكثرون فرض الله على الأمة الإسلامية حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ليجتمع المسلمون من جميع الأقطار فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ويُعينهم على اتباع دينه القويم وفي ذلك من تقوية الرابطة
واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.
السَّنة السَّادسَة : سرية محمد بن مسلمة إلى ضرنية قبل نجد
غزوة بني لِحيان
بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصم بن ثابت وإخوانه ولم يزل رسول الله حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص من عدوهم حتى ربيع الأول من هذه السنة فأمر أصحابه بالتجهّز ولم يُظهر مقصده كما هي عادته عليه الصلاة والسلام في غالب الغزوات لتعمى الأخبار عن الأعداء وولى على المدينة ابن أُم مكتوم وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع فترحم عليهم ودعا لهم ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال فأقام عليه الصلاة والسلام بديارهم يومين يبعث السرايا فلا يجدون أحداً ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا عُسْفَان حتى يعلم بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب فذهبوا إلى كُرَاع الغميم
ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وهو يقول
«آيبون تائبون لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر
وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال»
غزوة الغابة ذي قرد
كان للنبي عليه الصلاة والسلام عشرون لِقْحَة ترعى بالغابة فأغار عليها عُيينة بن حصن في أربعين فارساً واستلبها من راعيها فجاءت الأخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام والذي بلَّغه هو سَلَمَةُ بن الأكوع أحد رماة الأنصار وكان عَدّاءً فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم وجعل يرميهم بالنبل فإذا وجّهت الخيل نحوه رجع هارباً فلا يُلحق فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبل فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيراً مما بأيديهم من الرماح والأبراد ليخفّفوا عن أنفسهم حتى لا يلحقهم الجيش ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق به الجيش فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه وأول من انتهى إليه المقداد بن عمرو فقال له اخرج في طلب القوم حتى ألحقك وأعطاه اللواء فخرج وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان واستنقذ المسلمون غالبَ اللقاح وهرب أوائل القوم بالبقية وطلب سلمة بن الأكوع من رسول الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم ليأخذهم على غرّة وهم نازلون على أحد مياههم فقال له عليه الصلاة والسلام
«مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ»
ثم رجع بعد خمس ليال.
سرية عكاشة بن محصن إلى بني أسد قبل نجد
كان بنو أسد الذين مَرّ ذكرهم كثيراً ما يؤذون مَنْ يمرّ بهم من المسلمين فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام عُكَّاشة بن مِحْصَن في أربعين راكباً ليُغير عليهم ولما قارب بلادهم علموا به فهربوا وهناك وجدوا رجلاً نائماً فأمّنوه ليدلّهم على نَعَم القوم فدلّهم عليها فاستاقوها وكانت مائة بعير ثم قدموا المدينة ولم يلقوا كيداً.
سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القضة
وفي ربيع الأول بلغه عليه الصلاة والسلام أن من بذي القَصّة يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي ترعى بالهيفاء، فأرسل لهم محمد بن مسلمة في عشرة من المسلمين فبلغ ديارهم ليلاً، وقد كَمَن المشركون حينما علموا بهم، فنام المسلمون، ولم يشعروا إلا والنبل قد خالطهم، فتواثبوا على أسلحتهم ولكن تغلب عليهم الأعداء فقتلوهم، غير محمد بن مسلمة تركوه لظنهم أنه قُتِل، فعاد إلى المدينة، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم في الجهوم
عاكَسَ بنو سُليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة في ربيع الآخر ليُغير عليهم في الجَمُوم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم تفرقوا، ووجدوا هناك امرأة من مُزينة دلّتهم على منازل بني سُليم، أصابوا بها نَعَماً وشاءً، ووجدوا رجالاً أسروهم، وفيهم زوج تلك المرأة، فرجعوا بذلك إلى المدينة، فوهب الرسول لهذه المرأة نفسها وزوجها.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
بلغ الرسول أن عِيراً لقريش أقبلت من الشام تريد مكة فأرسل لها زيد بن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليعترضها، فأخذها وما فيها وأسر مَن معها من الرجال، وفيهم أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله ، وكان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانةً، فاستجار بزوجه زينب فأجارته، ونادت بذلك في مجمع قريش، فقال عليه الصلاة والسلام: المسلمون يد واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجرتِ وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين وردّ عليه الرسول ماله بأسره لا يفقد منه شيء، فذهب إلى مكة. فأدى لكل ذي حقَ حقَّه، ورجع إلى المدينة مسلماً، فردّ عليه رسول الله زوجه.
سرية زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة بالطرف
وفي جمادى الآخرة أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة في خمسة عشر رجلاً، للإغارة على بني ثعلبة، الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة وهم مقيمون بالطَّرَفِ. فتوجهت السرية لذلك، ولما رآهم الأعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول الله ، فهربوا وتركوا نَعَمهم وشاءهم، فاستاقها المسلمون ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليالٍ.
سرية زيد بن حارثة إلى بني فرارة بوادي القرى
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَ بن حارثة، ليُغيرَ على بني فَزَارة لأنهم تعرضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام، فسلبوا ما معه، وكادوا يقتلونه، فلما جاء المدينة، وأخبر الرسول الخبر، أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى. فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا بهم، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة، فاستوهبها عليه الصلاة والسلام ممّن أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة.
سرية عبد الرحمن بن عوف إلى بني كلب بدومة الجندل
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن بن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني كلب في دُومة الجَنْدل، وقد وصّاهم عليه الصلاة والسلام قبل السفر بقوله: اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيّه فيكم ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حلّوا بديار العدو فدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم الأَصْبَغ بن عمرو النصراني، وأسلم معه جمع من قومه، وبقي آخرون راضين بإعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمن بنت رئيسهم، كما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذه أقرب واسطة لتمكين صلات الودّ بين الأمراء بحيث يهمّ كلاًّ ما يهمّ الآخر، فنِعما هي سياسة السلم والمحبة.
سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب في مائة لغزو بني سعد بن بكر بفَدَك لأنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر يُعطَونه من تمر خيبر، فسارت السرية، وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس للعدوّ، وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد المعاهدة مع يهودها، فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو آمنٌ، فدلهم على موضعهم، فاستاق منه المسلمون نَعَم القوم، وهرب الرعاةُ، فحذَّروا قومهم، فدَاخَلَهم الرعب، وتفرقوا، فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة بَعير وألفا شاةٍ،
وردّ الله كيدَ المشركين فلم يمدُّوا اليهود بشيء.
سرية عبد الله بن عتيك قتل أبي رافع
وكان المحرّك لأهل خيبر على حرب المسلمين، وهو سيدهم، أبو رافع سَلاّم بن أبي الحُقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز، لما كان له من المهارة في التجارة، وكان ذا ثروة طائلة يُقَلِّبُ بها قلوبَ اليهود كما يريد، فانتدب له عليه الصلاة والسلام مَنْ يقتله،
فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم عبد الله بن
عَتِيْك، ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعبَ بن الأشرف، فإن من نِعم الله على رسوله أن كان الأوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله r، فلا تعمل الأوسُ عملاً إلا اجتهد الخزرجُ في مثله، فأمرهم الرسول
بذلك بعد أن وصَّاهم ألاّ يقتلوا وليداً ولا امرأة.
سرية عبد الله بن رواحة إلى خبير لقتل أسير بن رزام
ولما قُتل كعبٌ ولّى اليهود مكانه أُسَير بن رِزام، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يستعلم له خبره فجاءته الأخبار بأنه قال لقومه: سأصنع بمحمد ما لم يصنعه أحدٌ قبلي، أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه، وسعى في ذلك. فأرسل عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة الخزرجي في ثلاثين من الأنصار لاستمالته، فخرجوا حتى قدموا خيبر، وقالوا لأسير: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي مثل ذلك، فأجابوه، ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيولِّيه الرسول على خيبر، فيعيش أهلها بسلام، فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلاثين يهودياً كلُّ يهودي رديفٌ لمسلم، وبينما هم في الطريق ندم أُسَير على مجيئه، وأراد التخلّص مما فعل بالغدر بمن أمَّنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة، فقال له: أغدراً يا عدو الله ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عامّة فخذه، ولم يلبث أن هلك، فقام المسلمون على مَن معه من اليهود فقتلوهم عن آخرهم. وهذه عاقبة الغدر.
سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان
جلس أبو سفيان بن حرب يوماً في نادي قومه، فقال: ألا رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي بالأسواق لنستريحَ منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد، فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك. فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة صُبْحَ سادسةٍ من خروجه، فسأل عن رسول الله فَدُلَّ عليه وهو بمسجد بني عبد الأشهل،
فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال:
«إن هذا الرجل ليريد غدراً، وإن الله مانعي منه»
فذهب لينحني على الرسول ، فجذبه أُسيد بن حضير من إزاره، وهنالك سقط الخنجر، فندم الرجلُ على فعلته، ثم سأله عليه الصلاة والسلام عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيله. فقال الرجل: والله يا محمد ما كنت أخافُ الرجال، فما هو إلا أَنْ رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم إنك اطّلعت على ما هَممتُ به مما لم يعلمه أحد، فعرفتُ أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزبُ الشيطان، ثم أسلم.
غزوة الحُدَيْبيَة
رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين رؤوسَهم ومقصِّرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذراً من أن تردّهم قريش عن عمرتهم، ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألاّ ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وتخلَّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدّتهم ألفاً وخمسمائة، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهَدْيَ ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلا السيوف في القُرُب، لأن الرسول لم يرضَ أن يحملوا السيوف مجردة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عُسْفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكة وألاّ يدخلوها عليهم عَنْوةً أبداً. وتجهزوا للحرب، وأعدّوا خالد بن الوليد في مائتي فارس طليعة لهم ليصدّوا المسلمين عن التقدم، فقال عليه الصلاة والسلام: هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستوٍ سهل يملك مكة من أسفلها، فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المُرَار بركت ناقته. فزجروها فلم تقم،
فقالوا: خلأَتِ القَصْوَاء،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«ما خلأت وما ذلك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل.
والذي نفسُ محمد بيده لا تدعوني قريش لِخَصْلَة
فيها تعظيمُ حرمات الله إلا أجبتهم إليها»
مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم، ولكن كَفَّ الله أيدي المسلمين عن قريش، وكَفَّ أيدي قريش عن المسلمين كيلا تُنتهك حُرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرماً آمناً، ويوطد المسلمون من جميع الأقطار دعائمَ أخوتهم فيه. ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء بُدَيلبن وَرْقَاء الخُزاعي رسولاً من قريش، يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلما رجع بُديل إلى قريش وأخبرهم بذلك لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله r كما كانت كذلك لأجداده وقالوا: أيريد محمدٌ أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبداً ومنا عَيْن تَطْرف. ثم أرسلوا حُلَيْسَ بن علقمة سَيِّد الأحابيش وهم حلفاء قريش
فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال هذا مِنْ قوم يعظّمون الهدْي،
ابعثوه في وجهه حتى يراه، ففعلوا، واستقبله الناس يُلَبُّون،
فلما رأى ذلك حُلَيْس رجع، وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا.
أتحجُّ لخم وجذام وحمير، ويُمنع
عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكْت قريش، وربِّ البيت إن القوم أَتَوا معتمرين.فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلسْ إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عُرْوَةَ بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله r، وقال: يا محمد قد جمعتَ أوباشَ الناس، ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لِتَفُضَّها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألا تدخلها عليهم عَنْوة أبداً. وايمُ الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فنال منه أبو بكر وقال نحن ننكشف عنه ويحك وكان عروة يتكلم وهو يمسّ لحية رسول الله فكان المغيرة بن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه لا يتوضأ وضُوءاً إلا كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به وإذا تكلموا خَفَضوا أصواتهم عنده، ولا يُحِدُّون النظر إليه فقال والله يا معشر قريش جئتُ كسرى في ملكه وقيصرَ في عظمته فما رأيتُ مَلِكاً في قومه مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليه
فقالت قريش لا تتكلم بهذا ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل.
بيعة الرضوان
ودعا الناسَ للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك سميت بعد بشجرة الرضوان على الموت فشاعَ أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم، وكانوا قد أرسلوا خمسين رجلاً عليهم مكرزُ بن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم غِرَّة، فأسرهم حارس الجيش محمد بن مسلمة وهرب رئيسهم، ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجلاً وقُتل من المسلمين واحد.
صلح الحُدَيبية
وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بنَ عَمْرو للمكالمة في الصلح، فلما جاء قال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منّا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا مَنْ عندكم. وعندئذٍ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
من جاء المسلمين من قريش يردّونه،
ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يلزمون بردّه.
أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام،
ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش،
فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلا السيف
في القراب والقوس من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير
قريش دخل فيه ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه
فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط
أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم
وقالوا سبحان الله كيف نَرُدُّ إليهم من جاءنا مسلماً
ولا يردّون مَنْ جاءهم مُرْتداً
فقال عليه الصلاة والسلام إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله
ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً
أما الأمر الثالث وهو صدُّ المسلمين عن الطواف بالبيت
فكان أشد تأثيراً في قلوبهم لأن الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه
أنهم دخلوا البيت آمنين وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال :
وهل ذكر أنه في هذا العام.
السَّنَة السَّابعة : غزوة خَيبر
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز لغزو يهود خيبر الذين كانوا أعظم مُهَيِّجٍ للأحزاب ضد رسول الله في غزوة الخندق والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضد رسول الله وقد استنفر رسولُ الله لذلك مَنْ حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية، وجاء المخلَّفون عنها ليؤذَن لهم،
فقال عليه الصلاة والسلام:
لا تخرجوا معي إلا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئاً»،
وأمر منادياً ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولَّى على المدينة سِبَاعَ بن عُرْفُطَةَ الغفاري. وكان معه من أزواجه أُمّ سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء،
فقال عليه الصلاة والسلام:
ارفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً،
إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم
وكانت حصون خيبر ثلاثة منفصلاً بعضها عن بعض،
وهي: حصون النَّطَاة، وحصون الكَتيبة.
والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصَّعْب، وحصن قُلَّةٍ.
والثانية حصنان: حصن أُبيّ، وحسن البريء.
والثالثة ثلاثة حصون: حصن القَمُوص، وحصن الوَطِيْح، وحصن السُّلاِلم.
فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النَّطاة،
وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل،
وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا،
فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع،
ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة،
وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً،
وفيه مات محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة،
وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين، حتى إذا كانوا في الليلة السادسة، ظفر حارس الجيش، وهو عمر بن الخطاب، بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام،
ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمَّنْتُموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم.
فقالوا: دُلَّنَا فقد أَمَّنَّاك، فقال: إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب،
وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشَّق، وسيخرجون لقتالكم غداً،
فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت
فيه منجنيق ودبابات ودروع وسيوف،
يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق،
ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصن فتفتحه من يومك،
فقال عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة:
سأُعطي الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّانه»
فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمر بن الخطاب:
ما تمنيت الإمارة إلا ليلتئذ.فلما كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام
عن علي بن أبي طالب فقيل له: إنه أرمد، فأرسل مَنْ يأتيه به،
ولما جاء تَفَلَ في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء،
ثم أعطاه الراية، فتوجه مع المسلمين للقتال،
وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البِرَاز فقتله عليٌّ،
ثم خرج مَرْحَبٌ، وهو أشجع القوم، فألحقه برفيقه،
فخرج أخوه ياسر، فقتله الزبير بن العوّام،
ثم حملَ المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم،
وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه
وهو حصن الصَّعْبِ، وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر،
ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصَّعْب، فقاتل عنه اليهود قتالاً شديداً حتى
رد عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباب بن المنذر ومن معه
وقاتلوا قتالاً شديداً حتى هزموا اليهود،
فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن،
فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام
فأمر عليه الصلاة والسلام منادياً يقول:
«كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئاً.
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن قُلَّةٍ، فتبعهم المسلمون،
وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه،
وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود،
فمنعوها عنهم، فخرجوا،
وقاتلوا قتالاً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشَّقِّ.
زواج صفية